بعد التفاضل البدني من التفاضل بالإيمان والتقوى
وكذلك التفاضل البدني هو في الحقيقة أيضاً تفاضل بعضه قريب من بعض، فلو أتيت بأشد وأسرع الناس جرياً، أو قفزاً، أو قوة في حمل الأثقال، ثم قارنت بينه وبين أقل الناس في هذا الشأن؛ لوجدت أن الفرق ليس بالبون الشاسع الكبير كما هو في ميدان التفاضل في العلم، لكن أعظم من هذين التفاضل هو في الإيمان والتقوى، فإن الرجل يبلغ الدرجة العليا من الجنة، والجنة مائة درجة، وبين كل درجة ودرجة مثل ما بين السماء والأرض كما ثبت ذلك في الحديث، فأي تفاضل فوق هذا التفاضل؟! فهذا شيء لا يكاد العقل أن يتخيله أو يتصوره، وكل ذلك إنما هو بالإيمان، وبالعمل الصالح، وبالتقوى.وحسبنا أن نعلم أنه لو أنفق أحد ممن قاتل بعد الفتح؛ فضلاً عما جاء بعد القرون الثلاثة، فضلاً عمن هو في زماننا هذا؛ لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقين الأولين، ولا نصيفه، فمثل هذا الفضل العظيم كيف يلحق؟! فهذا شيء فوق الخيال.إذاً فالتفاضل في الإيمان، وفي درجات التقوى؛ أمر عظيم جداً.وإن كان -كما تقدم في مسألة الولاية- يمكن أن يجمل في درجتين، وكل درجة فيها مستويان: وهم المقربون، السابقون السابقون، وأصحاب اليمين أو المقتصدين.وقلنا: إن السابقين أنفسهم درجات، وأصحاب اليمين أيضاً درجات، فمنهم من هو في الدرجة العليا، ويكاد يقرب من السابقين، ومنهم من هو في درجة دنيا، ويكاد يكون قريباً من أهل الضلال، أو المعصية.فما بالك بالتفاضل بين أعلى درجات المقربين، وأدنى درجات المقتصدين! فما بالك بالتفاضل والتفاوت بين أعلى درجات المقربين، وأدنى وأحط دركات الكافرين و المنافقين!فهذا هو التفاوت الواسع، والبون الشاسع العظيم جداً الذي لا تكاد العقول تتخيله، وهذا هو الذي تصح فيه هذه القاعدة العظيمة، ويصح فيه هذا المبدأ العظيم: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13].